فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة البقرة: آية 203]:

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}.
الأيام المعدودات. أيام التشريق، وذكر اللَّه فيها: التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار.
وعن عمر رضى اللَّه عنه: أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى فيكبر من حوله، حتى يكبر الناس في الطريق وفي الطواف فَمَنْ تَعَجَّلَ فمن عجل في النفر أو استعجل النفر. وتعجل، واستعجل:
يجيئان مطاوعين بمعنى عجل. يقال: تعجل في الأمر واستعجل: ومتعديين، يقال: تعجل الذهاب واستعجله. والمطاوعة أوفق لقوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ} كما هي كذلك في قوله:
قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّى بَعْضَ حَاجَتِهِ ** وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعجِلِ الزَّلَلُ

لأجل المتأنى فِي يَوْمَيْنِ بعد يوم النحر يوم القرّ وهو اليوم الذي يسميه أهل مكة يوم الرؤوس، واليوم بعده ينفر إذا فرغ من رمى الجمار كما يفعل الناس اليوم وهو مذهب الشافعي ويروى عن قتادة. وعند أبى حنيفة وأصحابه ينفر قبل طلوع الفجر وَمَنْ تَأَخَّرَ حتى رمى في اليوم الثالث. والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبى حنيفة. وعند الشافعي لا يجوز. فإن قلت: كيف قال فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ عند التعجل والتأخر جميعًا؟ قلت: دلالة على أنّ التعجل والتأخر مخير فيهما، كأنه قيل: فتعجلوا أو تأخروا. فإن قلت: أليس التأخر بأفضل؟
قلت: بلى، ويجوز أن يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل وقيل: إنّ أهل الجاهلية كانوا فريقين: منهم من جعل المتعجل آثما، ومنهم من جعل المتأخر آثما فورد القرآن بنفي المأثم عنهما جميعًا لِمَنِ اتَّقى أى ذلك التخيير.
ونفى الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقى: لئلا يتخالج في قلبه شيء منهما فيحسب أنّ أحدهما يرهق صاحبه آثام في الإقدام عليه، لأنّ ذا التقوى حذر متحرّز من كل ما يريبه، ولأنه هو الحاج على الحقيقة عند اللَّه. ثم قال وَاتَّقُوا اللَّهَ ليعبأ بكم. ويجوز أن يراد ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى، لأنه هو المنتفع به دون من سواه، كقوله: {ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ}. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}.
التفسير: من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر، فالتقدير أشهر الحج أو وقته أشهر معلومات كقولك «البلد شهران». أو الحج حج أشهر معلومات أي لا حج إلا فيها خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية من النسيء. وقيل: يمكن أن يقال: جعل الحج نفس الأشهر كما في قولهم ليل قائم ونهار صائم واتفق المفسرون على أن شوّالًا وذا القعدة من أشهر الحج. واختلفوا في ذي الحجة فعن عروة بن الزبير ومالك كله لأن أقل الجمع ثلاثة، وقد يفعل الإنسان بعد النحر ما يتصل بالحج من رمي الجمار ونحوه. والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لابد منه إلى أيام بعد الشهر، من هنا ذهب عروة إلى جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر. وعن أبي حنيفة: عشر ذي الحجة وهو قول ابن عباس وابن عمرو النخعي والشعبي ومجاهد والحسن قالوا: لفظ الجمع يشترك فيما وراء الواحد بدليل قوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] ونزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال رأيتك سنة كذا وإنما رآه في ساعة منها. ورمي الجمار يفعله الإنسان وقد حل بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج. والحائض إذا طاف بعده فهو في حكم القضاء. وإنما قلنا إن يوم النحر من أشهر الحج لأنه وقت لركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة. ومن المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر. وعن الشافعي: التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر، لأن الحج يفوت بطلوع يوم النحر ولا تفوت العبادة مع بقاء وقتها.
قيل: إنه تعالى جعل كل الأهلة مواقيت للحج في قوله: {قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189] وفي هذه الآية جعل وقت الحج أشهر معلومات. وأجيب بأن تلك الآية عامة وهذه خاصة والخاص مقدم على العام. وأقول: الميقات علامة الوقت فلولا الأهلة لم يعلم مدخل كل شهر على التعيين. فجميع الأهلة في الإعلام سواء بالنسبة إلى وقت مفروض، فلا منافاة بين كون جميع الأهلة علامات الحج من حيث إنها تؤذن بما بقي من السنة إلى أوان الحج، وبين كون الأشهر المعلومات وقتًا للحج، ومعنى قوله: {معلومات} أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معينة من شهورها ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مرارًا، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع. وعلى هذا فهذا الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه وإنما جاء موافقًا مقررًا له. أو المراد أنها معلومات ببيان الرسول، أو المراد أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها وتأخيرها كما يفعله أصحاب النسيء. ثم إن الشافعي استدل بالآية على أنه لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج، وبه قال أحمد وإسحق. وأيضًا الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياسًا على الصلاة. وأيضًا الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر حكمًا، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى. وأيضًا الإحرام لا يبقى صحيحًا لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء، فلأن لا ينعقد صحيحًا لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء. وعن أبي حنيفة ومالك والثوري: جواز الإحرام في جميع السنة لقوله تعالى: {قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189] والجواب ما مر. قالوا: الإحرام التزام الحج فجاز تقدمه قبل الوقت كالنذر. والجواب الفرق بين النذر والإحرام، فإن الوقت معتبر للأداء ولا اتصال للنذر بالأداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ، وأما الإحرام مع كونه التزامًا فهو أيضًا شروع في الأداء وعقد عليه فلا جرم افتقر إلى الوقت. قالوا: اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا: من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله. وقد تبعد داره بعدًا شديدًا يحتاج إلى أن يحرم قبل شوال. والجواب أن النص لا يعارضه الأثر على أنه يمكن تخصيص الأثر في حق من لا يكون داره سحيقًا {فمن فرض فيهن الحج} فمن ألزم نفسه في هذه الشهور أن يحج. وبماذا يحصل هذا الإلزام المسمى بالإحرام لأنه يحرم عليه حينئذ أشياء كانت حلالًا له. قال الشافعي: إنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية. نعم إنها سنة عند النية وبه قال أحمد ومالك لقوله تعالى: {فمن فرض} وفرض الحج على النية أدل منه على التلبية أو سوق الهدي.
وفرض الحج موجب لانعقاد الحج بدليل قوله: {فلا رفث} فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج. وأيضًا قال صلى الله عليه وسلم: «لكل امرئ ما نوى» وأيضًا إنه عبادة ليس في آخرها ولا في أثنائها نطق واجب، فكذلك في ابتدائها كالطهارة والصوم. وعند أبي حنيفة: التلبية شرط انعقاد الإحرام لإطباق الناس على الاعتناء به عند الإحرام إلا أن سوق الهدي وتقليده والتوجه معه يقوم مقام التلبية. وعن ابن عمر أنه قال: إذا قلد أو أشعر فقد أحرم. وعن ابن عباس: إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحج فقد أحرم. وروى أبو منصور الماوردي في تفسيره عن عائشة أنها قالت: لا يحرم إلا من هل أو لبى. وأيضًا إن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيها بنفس النية كالصلاة. وصورة التلبية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» ولا تكره الزيادة على هذا. روي عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها. لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك لبيك والرغبى إليك والعمل. فإن رأى شيئًا يعجبه قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة. ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات أنه قال في تلبيته: لبيك حقًا تعبدًا ورقًا. قال الشافعي في أصح قوليه: الأفضل أن ينوي ويلبي حين تنبعث به راحلته إن كان راكبًا، وحين يتوجه إلى الطريق إن كان ماشيًا لما روي أنه صلى الله عليه وسلم لم يهل حتى انبعثت به دابته، قال إمام الحرمين: ليس المراد من انبعاث الدابة ثورانها، بل المراد استواؤها في صوب مكة. فإذا استوت به راحلته متوجهًا إلى الطريق نوى: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ولبى. وإن كان يريد القران نوى الحج والعمرة، وإن كان يريد العمرة نوى العمرة ولبى. والقول الثاني وبه قال أحمد ومالك وأبو حنيفة أن الأفضل أن ينوي ويلبي كما تحلل من الصلاة أي من ركعتي الإحرام وهو قاعد. ثم يأخذ في السير لرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم، وتكثير التلبية في دوام إلا حرام مستحب قائمًا كان أو قاعدًا راكبًا أو ماشيًا حتى في حالة الجنابة والحيض لأنه ذكر لا إعجاز فيه فأشبه التسبيح، قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت».
قوله عز من قائل: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال} من قرأ بفتح الثلاثة أو برفعها فلا إشكال، ومن قرأ برفع الأولين وفتح الأخير فقيل: لأن الأولين محمولان على معنى النهي كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، ثم أخبر بانتفاء الجدال أي لا شك ولا خلاف في الحج.
وذلك أن قريشًا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام، وسائر العرب يقفون بعرفة، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء، فرد إلى وقت واحد، ورد الوقوف إلى عرفة فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج، وربما يستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمه» وإنه لم يذكر الجدال. وقيل: الاهتمام بنفي الجدال أشد من الاهتمام بنفي الرفث والفسوق فلذلك قرئ كذلك. أما الأوّل فلأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة، والجدال مشتمل على ذلك لأن المجادل يشتهي تمشية قوله، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله، والمجادل لا ينقاد للحق. وكثيرًا ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء، فدل على أن الجدال مشتمل على جميع أنواع القبح. وأما أن القراءة تفيد ذلك فلأن الفتح يقتضي نفي الماهية، وانتفاؤها يوجب انتفاء جميع أفرادها. وأما الرفع فلا يوجب انتفاء جميع أفراد الماهية بل يجوّز، فيكون الفتح أدل على عموم النفي. أما تفسير الرفث فعن ابن عباس هو الجماع، وله في العمرة والحج نتائج منها. فساد النسك يروى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من الصحابة، واتفق الفقهاء عليه بعدهم، وإنما يفسد الحج بالجماع إذا وقع قبل التحللين لقوّة الإحرام. ولا فرق بين أن يقع قبل الوقوف بعرفة أو بعده خلافًا لأبي حنيفة حيث قال: لا يفسد بالجماع بعد الوقوف ولكن يلزمه الفدية. وأما الجماع بين التحللين فلا أثر له في الفساد على الصحيح. وعن مالك وأحمد أنه يفسد ما بقي شيء من إحرامه، وتفسد العمرة أيضًا بالجماع قبل حصول التحلل. ووقت التحلل عنها بعد الفراغ من الحلق بناء على أنه نسك وهو الأصح، فتفسد العمرة بالجماع قبل الحلق، واعلم أن للعمرة تحللًا واحدًا وذلك إذا طاف وسعى وحلق، وللحج تحللان وذلك أنه إذا أتى باثنين من الرمي والنحر والحلق والطواف أعني الرمي والحلق، أو الرمي والطواف، أو الحلق والطواف، حصل التحلل الأول وهو إباحة جميع المحظورات من التطيب والقلم ولبس المخيط وقتل الصيد وعقد النكاح إلا الجماع فإنه لا يحل إلى الإتيان بالأمر الثالث، فإذا أتى به حل الجماع أيضًا وهو المراد بالتحلل الثاني قال الأئمة: الحج يطول زمانه وتكثر أعماله بخلاف العمرة فأبيح بعض محظوراته دفعة وبعضها أخرى.
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء» واللواط وإتيان البهيمة في الإفساد كالوطء في الفرج وبه قال أحمد خلافًا لأبي حنيفة فيهما ولمالك في إتيان البهيمة، ثم سائر العبادات لا حرمة لها بعد الفساد ويصير الشخص بالفساد خارجًا منها، لكن الحج والعمرة وإن فسدا يجب امضي فيهما وذلك بإتمام ما كان يفعله لولا عروض الفساد روي عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من أفسد حجه مضى في فاسده وقضى من قابل. ومن نتائج الفساد الكفارة يستوي فيها الحج والعمرة. وخصالها خمس على الترتيب بدنة إن وجدها لأن الصحابة نصوا على البدنة وإلا فبقرة وإلا فسبع من الغنم وإلا قومت البدنة دراهم والدراهم طعامًا فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يومًا. ومن النتائج القضاء باتفاق لما روينا عن كبار الصحابة وقضى من قابل، سواء كان المقضي عنه فرضًا أو تطوعًا فإن القضاء واجب، وأصح الوجهين في القضاء أنه على الفور لا على التراخي، لأنه لزم وتضيق بالشروع ويدل عليه ظاهر قول الصحابة و«قضى من قابل». وكذا الكلام فيمن ترك الصوم أو الصلاة بعدوان على الأشبه، لأن جواز التأخير نوع ترفيه وتخفيف والمعدي لا يستحق ذلك. ولو كانت المرأة محرمة نظر إن جامعها وهي نائمة أو مكرهة لم يفسد حجها وإلا فسد، ولكن لا يجب على أصح القولين إلا بدنة واحدة عنهما جميعًا. وإذا أفسد حجه بالجماع ثم جامع ثانيًا فإن لم يفد عن الأول لزم بدنة أخرى. وإن فدى لم يلزم إلا شاة. وعن الحسن: الرفث كل ما يتعلق بالجماع، فليس للمحرم التقبيل بالشهوة ولا المباشرة فيما دون الفرج. فلو باشر شيئًا منها عمدًا فالفدية. روي عن علي وابن عباس أنهما أوجبا بالقبلة شاة وإن كان ناسيًا لم يلزمه شيء ولا يفسد شيء من مقدمات الجماع الحد ولا يوجب البدنة بحال سواء أنزل أو لم ينزل، وبه قال أبو حنيفة، وعند مالك يفسد الحج إذا أنزل وهو أظهر الروايتين عن أحمد. وقيل: الرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها. والرفث باليد اللمس والغمز، والرفث بالفرج الجماع. وقيل: الرفث هو قول الخنا والفحش لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم» وعن أبي عبيدة: الرفث الإفحاش وعنه الرفث اللغو في الكلام. وأما الفسوق فهو الخروج عن الطاعة وحدود الشريعة فيشمل كل المعاصي قال تعالى: {ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50] وقيل: هو التنابز بالألقاب والسباب قال تعالى: {ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} وقال صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
وقيل الإيذاء والإيحاش {ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم} [البقرة: 282] وعن ابن زيد: هو الذبح للأصنام {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وأنه لفسق} [الأنعام: 121] وقيل: الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة والفسوق ذلك مع الأجنبية. وأما الجدال فإنه فعال من المجادلة وأصله من الجدل والفتل كأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه. واختلف المفسرون فيه. فعن الحسن: هو الجدال الذي يفضي إلى السباب والتكذيب والتجهيل، وإنه واجب الاجتناب في كل حال إلا أنه مع الرفقاء وفي الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة، وقال محمد بن كعب القرظي: إن قريشًا كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم: حجنا أتم. وقال آخرون: بل حجنا أتم. وقال آخرون: بل حجنا أتم. فنهاهم الله عن ذلك. وقال مالك في الموطأ: الجدال في الحج أن قريشًا كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بفزح وإنه جبل هناك، وكان غيرهم يقفون بعرفات، وكل من الفريقين يقول: نحن أصوب. وقال القاسم بن محمد: كانوا يجعلون الشهور على العدد فيختلفون في يوم النحر بسبب ذلك. فبعضهم يقول هذا يوم عيد، ويقول آخرون بل غدًا فكأنه قيل لهم: قد بينا لكم أن الأهلة هي مواقيت الحج فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه. قال القفال: ويدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق ذلك عليهم وقالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيًا. فقال صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» فتركوا الجدال حينئذ. وقال عبد الرحمن بن زيد: جدالهم في الحج اختلافهم في أن أيهم المصيب مقام إبراهيم. وقيل: إنه النسيء نهوا عن ذلك فإن الزمان قد عاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم صلى الله عليه وسلم، قال القاضي أبو بكر الباقلاني: لو حمل النفي في الألفاظ الثلاثة على الخبر وجب أن يحمل الرفث على الجماع، والفسوق على الزنا، والجدال على الشك في الحج، ليصح خبر الله تعالى بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج المعتبر. وإن حملنا الكلام على النهي صح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش، وبالفسوق جميع أنواعه، وبالجدال جميع أصنافه، فعلى هذا يكون في الآية بعث على الأخلاق الحميدة والآداب الحسنة. وبالحقيقة لا رفث نهي عن طاعة القوّة الشهوية التي توجب الانهماك في الفجور، ولا فسوق إشارة إلى قهر القوّة الغضبية الداعية إلى التمرد والاستعلاء، ولا جدال رمز إلى تسخير القوّة الوهمية التي تحمل الإنسان على الخلاف في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحكامه، فمنه تنشأ الآراء المتخالفة والأهواء المتصادمة والعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة.
واعلم أن الجدال ليس منهيًا عنه بجميع أقسامه وإنما المذموم منه هو الذي منشأه صرف العصبية ومخض المراء لتنفيذ الآراء الزائفة وتحصيل الأعراض الزائلة والأغراض الفارغة، وأما الذب عن الدين القويم والدعاء إلى الصراط المستقيم وإلزام الخصم الألد وإفحام المعاند اللجوج بمقدمات مشهورة وآراء محمودة حتى يستقر الحق في مركزه ويضمحل صولة الباطل ويركد ريحه فمأمور به في قوله عز من قائل: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] وإنه إحدى شعب البيان وقد يكون أنجع من قاطعة البرهان {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} لم يتعرض لمقابل الخير وإن كان عالمًا به أيضًا لنكتة هي أني إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته، وإذا علمت منك ضده أخفيته وسترته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك هكذا في الدنيا فكيف تكون في العقبى؟ وفيه ترغيب للمطيعين وإيذان بأنهم من المحسنين «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والعبد الصالح إذا علم اطلاع مولاه على سرائره وخفاياه اجتهد في أداء ما أمره به، واحترز عن ارتكاب ما نهاه عنه، ومن غاية عنايته حثهم على الخير بعدما نهاهم عن الشر ليستعملوا مكان الرفث التفث، وبدل الفسوق رعاية الحقوق، ومقام الجدال والشقاق الوفاق مع الرفاق تتميمًا لمكارم الأخلاق وتنبيهًا على شرف النفس وطيب الأعراق بدليل قوله: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن ذلك خير الزاد. وليس السفر من الدنيا أهون من السفر في الدنيا، وهذا لابد له من زاد فكذا ذلك. بل يزداد فإن زاد الدنيا يخلصك عن عذاب منقطع موهوم، وزاد الآخرة ينجيك من عذاب أبديّ معلوم. زاد الدنيا يوصلك إلى متاع الغرور، وزاد الآخرة يبلغك دار السرور. وزاد الدنيا سبب حصول حظوظ النفس، وزاد الآخرة سبب الوصول إلى عتبة الجلال والقدس.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ** ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا

ندمت على أن لا تكون كمثله ** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

وقيل: نزلت في ناس من اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون: نحن متوكلون. ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموهم وغصبوهم فأمرهم الله سبحانه أن يتزوّدوا ما يتبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم. وفيه دليل على أن القادر على استصحاب الزاد في السفر، إذا لم يستصحب عصى الله في ذلك، ففيه إبطال حكمة الله تعالى ورفع الوسائط والروابط التي عليها تدور المناجح وبها تنتظم المصالح. روي أن بعض العارفين زهد فبلغ من زهده أن فارق الناس وخرج من الأمصار وقال: لا أسأل أحدًا شيئًا حتى يأتيني رزقي. فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعًا لم يأته شيء حتى كاد يتلف.
فقال: يا رب إن أحببتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك. فألهمه الله تعالى في قلبه: وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس فدخل المدينة وأقام بين ظهراني الناس فجاء هذا بطعام وهذا بشراب فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك، فسمع أردت أن تبطل حكمته بزهدك في الدنيا، أما علمت أنه يرزق العباد بأيدي العباد أحب إليه من أن يرزقهم بيد القدرة. وقيل: في الآية حذف أي تزودوا لعاجل سفركم وللآجل {فإن خير الزاد التقوى} واتقون وخافوا عقابي. وفيه تنبيه على كمال عظمته كقوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري

{يا أولي الألباب} يعني أن قضية العقل تقوى الله ومن لم يتقه فلا لب له في التحقيق. ولما منع الناس عن الجدال اختلج في قلب المكلف شبهة أن التجارة لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها يجب أن تكون منهية. وأيضًا أنها كانت محرمة في الجاهلية وقت الحج وأنه أمر غير مستحسن ظاهرًا لأن المشتغل بخدمة الله تعالى يجب أن لا يتلوث بالأطماع الدنيوية. وأيضًا كان من الممكن أن تقاس التجارة على سائر المباحات من الطيب والمباشرة ولاصطياد في كونها محظورة بالإحرام فلدفع هذه الشبهة نزلت.
{ليس عليكم جناح أن تبتغوا} أي في أن تطلبوا {فضلًا من ربكم} عطاء منه وتفضلًا أو زيادة في الرزق بسبب التجارة والربح بها كقوله: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20] عن أبي مسلم: أنه حمل الآية على ما بعد الحج. قال: والتقدير واتقون في كل أفعال الحج، ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح أن تبتغوا كقوله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة: 10] وزيف بأن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لا على موضع الشبهة، ومحل الاشتباه هو التجارة في زمان الحج، وأما بعد الفراغ فالحل معلوم، وقياس الحج على الصلاة فاسد، فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في خلالها. وأيضًا الفاء في قوله: {فإذا أفضتم} ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك يدل على أن المراد وقوع التجارة في زمان الحج ويؤيده قراءة ابن عباس {فضلًا من ربكم في مواسم الحج} وقال ابن عباس في سبب نزول الآية كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في الكف عن البيع والشراء فلم يقم لهم سوق، ويسمون من يخرج للتجارة الداج ويقولون: هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ومعنى الداج الأعوان والمكارون من الدجيج وهو الدبيب في السير. قال ابن السكيت: لا يطلق الدجيج إلا إذا كان جماعة ولا يقال ذلك للواحد.
وقيل: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم، وكانت معايشهم منها. فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الحرج. ومن المعلوم أنه إنما يباح ما لم يشغل عن العبادة. وعن ابن عمر أن رجلًا قال له: إنا قوم نكرى في هذا الوجه يعني في طريق الحج، وإن قومًا يزعمون أن لا حج لنا. فقال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت عنه فلم يرد عليه حتى نزل: {ليس عليكم جناح} فدعا به فقال: أنتم حجاج. وعن عمر أنه قيل له: هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال: وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج؟! وعن جعفر الصادق رضي الله عنه: أن ابتغاء الفضل هاهنا طلب أعمال أخر زائدة على أعمال الحج موجبة لفضل الله تعالى ورحمته كإعانة الضعيف وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع وإرواء العطشان. واعلم أن الفضل ورد في القرآن بمعان، منها ما يتعلق بالمصالح الدنيوية من المال والجاه والغذاء واللباس وهو المسمى بالرزق {فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة: 10] ومنها ما يتعلق بالمصالح الأخروية وهو الفضل والثواب والجنة والرحمة {تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من الله} [الفتح: 29] {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان} [النساء: 83] ومنها ما يتعلق بمواهب القربة {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [الحديد: 21] {وكان فضل الله عليك عظيمًا} [النساء: 113] ورفع الجناح قد يستعمل في الواجب والمندوب مثل ما يستعمل في المباح كما مر في قوله: {فلا جناح عليه أن يطوّف بهما} [البقرة: 158].
{فإذا أفضتم} أي دفعتم بكثرة ومنه إفاضة الماء وهو صبه بكثرة. التقدير: أفضتم أنفسكم. فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا وصبوا. وعرفات جمع عرفة وكلاهما علم للموقف كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمي مجموع تلك القطعة بعرفات كما قيل في باب الصفة ثوب أخلاق وبرمة أعشار ثم سئل: هلا منعت الصرف وفيها سببان التعريف والتأنيث؟ فقيل: إنه لم يبق علمًا بعدما جمع ثم جعل علمًا لمجموع القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في الصرف. وقيل: إن هذا التنوين تنوين المقابلة في نحو مسلمات ومن ذهب إلى أن تنوين المقابلة لا وجود له كجار الله وكثير من المتأخرين. وأن هذا التنوين تنوين الصرف. قالوا: إنما لم يسقط لأن التأنيث في نحو مسلمات وعرفات ضعيف. فإن التاء التي هي لمحض التأنيث سقطت، والباقية علامة لجمع المؤنث، وزيف بأن عرفات مؤنث. وإن قلنا إنه لا علامة تأنيث فيها لا متمحضة للتأنيث ولا مشتركة لأنه لا يعود الضمير إليها إلا مؤنثًا تقول هذه عرفات مباركًا فيها ولا يجوز مباركًا فيه إلا بتأويل بعيد كما في قوله ولا أرض أبقل إبقالها فتأنيثها لا يقصر عن تأنيث مصر الذي هو بتأويل البقعة.
وقال بعض المتأخرين: الأولى أن يقال: إن التنوين للصرف وإنما لم يسقط في نحو عرفات لأنه لو سقط لتبعه الكسر في السقوط وتبع النصب وهو خلاف ما عليه الجمع السالم، إذ الكسر فيه متبوع لا تابع فهو فيه كالتنوين في غير المنصرف للضرورة لم يحذفا لمانع. هذا مع أنه جوز المبرد والزجاج هاهنا مع العلمية حذف التنوين وإبقاء الكسر كبيت امرئ القيس في رواية.
تنورتها من أذرعات وأهلها ** بيثرب أدنى دارها نظر عالي

وبعضهم يفتح التاء في مثله مع حذف التنوين كسائر ما لا ينصرف. فعلى هذين الوجهين التنوين للظرف بلا خلاف، والأشهر بقاء التنوين في مثله مع العلمية. وقيل: التنوين عوض من منع الفتحة. واعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة. وعرفة وعرفات هي الموضع المخصوص. فقيل: التروية التفكر. وسببه أن آدم عليه السلام لما أمر ببناء البيت فبناء تفكر فقال: يا رب إن لكل عامل أجرًا فما أجري على هذا العمل؟ قال: إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك. قال يا رب زدني قال: أغفر لأولادك إذا طافوا به. قال: زدني، فقال: أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك. قال: حسبي يا رب حسبي. وقيل: إن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح متفكرًا هل هذا من الله أو من الشيطان، فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال: عرفت يا رب أنه من عندك. وقيل: إن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروّون في الأدعية التي يذكرونها في الغد بعرفات. وقيل: التروية الإرواء فإن أهل مكة كانوا يجمعون الماء للحجيج الذي يقصدونهم من الآفاق فيتسعون في الماء بعدما تعبوا في الطريق من قلة الماء، أو لأنهم يتزوّدون الماء إلى عرفة، أو لأن المذنبين كالعطاش وردوا بحار الرحمة فشربوا منها حتى رووا. أما يوم عرفة فقيل: إنه من المعرفة لأن آدم وحوّاء عليهما السلام التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه، عن ابن عباس أو لأن جبريل عليه السلام علم آدم مناسك الحج فلما وقف بعرفات قال له: أعرفت؟ قال: نعم. أو لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة. عن علي عليه السلام وابن عباس وعطاء والسدي. أو لأن جبريل عرف بها إبراهيم المناسك وقد مر في قوله: {وأرنا مناسكنا} [البقرة: 128] أو لأن إبراهيم وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يتلاقيا سنين ثم التقيا يومًا بعرفات، وقد سبقت القصة في بناء البيت في قوله: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد} [البقرة: 127] ولما ذكرنا آنفًا من مقام إبراهيم أو لأن الحاج يتعارفون فيه إذا وقفوا، أو لأنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة. وقيل: اشتقاقها من الاعتراف لأن الناس يعترفون هنالك للحق بالربوبية والجلال، ولأنفسهم بالفقر واختلاف الحال. يقال: إن آدم عليه السلام وحوّاء لما وقفا بعرفات قالا ربنا ظلمنا أنفسنا، فقال الله سبحانه: الآن عرفتما أنفسكما. وقيل: من العرف وهو الرائحة الطيبة لأن المذنبين يكتسبون بالمغفرة روائح طيبة عند الله مقام ضدها. قال صلى الله عليه وسلم: «خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» وقد يسمى يوم عرفة يوم إياس الكفار من الإسلام ويوم إكمال الدين ويوم إتمام النعمة ويوم الرضوان أخذًا من قوله تعالى في المائدة {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3] عن عمر وابن عباس: نزلت هذه الآية عشية يوم عرفة وكان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام في حجة الوداع وقد اضمحل الكفر وهدم منار الجاهلية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس مالهم في هذه الآية لقرت أعينهم». قال يهودي لعمر: لو أن هذه الآية أنزلت علينا لتخذنا ذلك اليوم عيدًا فقال عمر: أما نحن فجعلناه عيدين. وكان ذلك يوم عرفة ويوم جمعة يوم صلة الواصلين {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3] يوم قطيعة القاطعين {إن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة: 3] يوم إقالة عثرة النادمين وقبول توبة التائبين {ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23] يوم وفد الوافدين في الخبر «الحاج وفد الله والحاج وزّار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره» يوم الحج الأكبر {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} [التوبة: 3] يوم خص صومه بكثرة الثواب قال صلى الله عليه وسلم: «صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين» وقال «من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله مثل ثواب عيسى بن مريم» أقسم الله تعالى به في قوله عز من قائل: {والشفع والوتر} [الفجر: 3] عن ابن عباس: الشفع يوم التروية وعرفة، والوتر يوم النحر يوم خص بكثرة الرحمة وسعة المغفرة. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو يتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء اشهدوا ملائكتي أني قد غفرت لهم» ولا ضير أن نشير هاهنا إلى أعمال الحج إشارة خفيفة.
اعلم أنه من دخل مكة محرمًا في ذي الحجة أو قبله فإن كان مفردًا أو قارنًا طاف طواف القدوم وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات، وإن كان متمتعًا طاف وسعى وحلق وتحلل من عمرته وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات، وحينئذ يحرم من جوف مكة بالحج ويخرج، وكذلك من أراد الحج من أهل مكة. والسنة للإمام أن يخطب بمكة اليوم السابع من ذي الحجة بعدما صلى الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فيها بالذهاب غدًا بعد أن يصلوا الصبح إلى منى، ويعلمهم تلك الأعمال. ثم إن القوم يذهبون يوم التروية إلى منى بحيث يوافون الظهر بمنى ويصلون بها مع الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة، ثم إذا طلعت الشمس على ثبير توجهوا إلى عرفات، فإذا دنوا منها فالسنة أن لا يدخلوها بل تضرب قبة الإمام بنمرة. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث حتى طلعت الشمس ثم ركب وأمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فنزل بها. فإذا زالت الشمس حطب الإمام خطبتين يبين لهم مناسك الحج ويحرضهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف، وبعد الفراغ من الخطبة الأولى جلس ثم قام وافتتح الخطبة الثانية والمؤذنون يأخذون في الأذان معه. ويخفف بحيث يكون فراغه منها مع فراغ المؤذنين من الأذان، ثم ينزل فيقيم المؤذنون فيصلي بهم الظهر، ثم يقيمون في الحال فيصلي. بهم العصر، وهذا الجمع متفق عليه. ثم بعد الفراغ من الصلاة يتوجهون إلى عرفات فيقفون عند الصخرات لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف هناك، وإذا وقفوا استقبلوا القبلة ويذكرون الله تعالى ويدعونه إلى غروب الشمس. والوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» فمن فاته عرفة فقد فاته الحج. وقد يستدل بالآية أيضًا على ذلك لأنها دلت على ذكر الله عند المشعر الحرام عقيب الإفاضة من عرفات. والإفاضة من عرفات لا تتصور إلا بعد الحصول بعرفات. وجمهور الفقهاء على أن الوقوف بالمشعر الحرام ليس بركن لأنه تعالى أمر بالذكر عنده، فالوقوف به تبع لا أصل بخلاف الوقوف بعرفة لأنه جعله أصلًا حيث لم يقل فإذا أفضتم عن الذكر بعرفات. ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة، وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار كفى. وقال أحمد: وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر. وإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة.
قيل: سمي بها لأنهم يقربون فيها من منى والازدلاف القرب. وقيل: لأن الناس يجتمعون بها، والازدلاف الاجتماع. وقيل: لأنهم يزدلفون إلى الله أي يتقربون بالوقوف فيها. ويقال: للمزدلفة جمعم لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء عن قتادة: وقيل: لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها. ثم إذا أتى الإمام المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء بإقامتين. ثم يبيتون بها فإن لم يبت بها فعليه دم شاة. فإذا طلع الفجر صلوا الصبح بغلس. والتغليس بالفجر هاهنا أشد استحبابًا منه في غيرها وهو متفق عليه. فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي، يأخذ كل إنسان سبعين حصاة ثم يذهبون إلى المشعر الحرام، وهو جبل يقول له قزح فيرقى فوقه إن أمكنه أو وقف بالقرب منه إن أمكنه، ويحمد الله ويهلله ويكبره، ولا يزال كذلك حتى يسفر جدًا، ثم يدفع قبل طلع الشمس. ويكفي المرور كما في عرفة ثم يذهبون منه إلى وادي محسر، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكبًا يحرك دابته، ومن كان ماشيا يسعى سعيًا شديدًا قدر رمية حجر. فإذا أتى منى رمى جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ويقطع التلبية إذا رمى، ثم بعدما رمى جمرة العقبة ذبح الهدي إن كان معه هدي وذلك سنة لو تركه لا شيء عليه لأنه ربما لا يكون معه هدي. ثم بعدما ذبح الهدي يحلق رأسه أو يقصر، ثم بعد الحلق أتى مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة وهو الركن ويصلي ركعتي الطواف ويسعى بين الصفا والمروة، ثم بعد ذلك يعود إلى منى في بقية يوم النحر، وعليهم البيتوتة بمنى ليالي التشريق لأجل الرمي. واعلم أن من مكة إلى منى فرسخين، ومن منى إلى عرفات فرسخين، ومزدلفة متوسطة بين منى وعرفات منها إلى كل واحد منهما فرسخ، ولا يقفون بها في سيرهم من منى إلى عرفات. والحاصل أن أعمال الحج يوم النحر إلى أن يعود إلى منى أربعة: رمي جمرة العقبة والذبح والحلق والتقصير والطواف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة أيضًا لأنهم يأتون من منى زائرين للبيت ويعودون في الحال. والترتيب في الأعمال الأربعة على النسق المذكور مسنون وليس بواجب. أما أنه مسنون فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، وأما أنه ليس بواجب فلما «روي عن عبد الله بن عمرو قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال: يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج. وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي قال: ارم ولا حرج. وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال: ارم ولا حرج، فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج».
وعن مالك وأحمد وأبي حنيفة أن الترتيب بينها واجب ولو تركه فعليه دم على تفصيل ليس هاهنا موضع بيانه. ثم إن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج من سنة إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الحمس كانوا لا يقفون بعرفات ويقولون: لا نخرج من الحرم ولا نتركه في وقت الطاعة، وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس، والذين يقفون بمزدلفة إذا طلعت الشمس ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير أي نسرع للنحر. وقيل: أي ندفع من مزدلفة فندخل في غور الأرض. وثبير جبل هناك فأمر الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بمخالفة القوم في الدفعتين فأمره بأن يفيض من عرفات بعد غروب الشمس. وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس، فإن السنة أيضًا من قبيل الوحي. قال الواحدي: المشعر الحرام هو المزدلفة سماه الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده. وقال في الكشاف: المشعر الحرام قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة، أي: يوقد هناك النار في الجاهلية، قال: وقيل المشعر الحرام ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام. قال: والصحيح أنه الجبل لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر يعني بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفًا حتى أسفر. وقال: عند المشعر الحرام معناه ما يلي المشعر الحرام قريبًا منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، أو جعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر. والمشعر المعلم لأنه معلم لعبادته ووصف بالحرام لحرمته. وأما الذكر المأمور به هناك فقيل: هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء. والصلاة تسمى ذكرًا قال تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14] والدليل عليه أن {فاذكروا} أمر فهو للوجوب ولا ذكر يجب هناك إلا هذا، والجمهور على أن المراد ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل. عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون {كما هداكم} ما مصدرية أو كافة. أطلق الأمر بالذكر أوّلًا ثم قيده ثانيًا. والمعنى: اذكروه ذكرًا حسنًا كما هداكم هداية حسنة كي تكونوا شاكرين والهداية إما كل أنواع الهدايات أو الهداية إلى سنة إبراهيم في مناسك الحج، أو اذكروا كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه بحسب الرأي والقياس، فإن أسماء الله تعالى توقيفية أو الذكر الأول محمول على الذكر باللسان، والثاني على الذكر بالقلب. أو المعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته، أو المراد بتثنية الأمر تكريره وتكثيره كقوله: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا} [الأحزاب: 41] وعلى هذا فيكون قوله: {كما هداكم} متعلقًا بالأمرين جميعًا، أو الذكر الأول مقيد بأنه عند المشعر الحرام والثاني مطلق يدل على وجوب ذكره في كل مكان وعلى كل حال. فالأول إقامة للوظيفة الشرعية والثاني ارتقاء إلى معارج الحقيقة وهو أن ينقطع القلب عن المشعر الحرام بل عن كل ما سواه من حلال وحرام. أو المراد بالأول الجمع بين الصلاتين هناك وبالثاني التسبيح والتحميد {وإن كنتم من قبله} من قبل الهدى، أو من قبل الرسول، أو من قبل إنزال الكتاب الذي بين فيه معالم دينكم {لمن الضالين} الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه. وإن هي المحففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية {ثم أفيضوا} في هذه الإفاضة قولان: أحدهما أنه الإفاضة من عرفات وعلى هذا فالأكثرون قالوا: إنه أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس لأنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويتعللون بأن الحرم أشرف من غيره، فالوقوف به أولى. وبأنهم أهل الله وقطان حرمه فلا يليق بحالهم أن يساووا الناس بالوقوف في الموقف ترفعًا وكرًا. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل أبا بكر أميرًا في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات. فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له: إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك؟ فلا تذهب. فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها وأمر سائر الناس بالوقوف بها. والحاصل ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس الواقفون بعرفات لا من المزدلفة. ومعنى ثم التفاوت بين الإفاضتين وأن الإفاضة المأمور بها صواب والأخرى خطأ كما تقول: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى كريم والإحسان إلى غيره، وبهذا التحقيق لا يلزم عطف الشيء على نفسه. وصيرورة المعنى: فإذا أفضتم من عرفات فأفيضوا من عرفات، ولا أن يقدر تقديم هذه الآية على ما قبلها في الوضع. ومن القائلين بأن المراد الإفاضة من عرفات من قال إنه أمر الناس جميعًا. وقوله: {من حيث أفاض الناس} المراد به إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام فإن من سنتهما ذلك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ويخالف الحمس. وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيسًا مقتدى به. {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120] {الذين قال لهم الناس} [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود {إن الناس} يعني أبا سفيان. ووجه ثالث وهو أن يكون قوله: {من حيث أفاض الناس} عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفات وأن ما عداه مبتدع كما يقال هذا مما فعله الناس قديمًا.
القول الثاني عن الضحاك أن المراد الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر، وقوله: {من حيث أفاض الناس} يعني إبراهيم وإسماعيل ومتبعيهما فإن طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس فأمرهم الله تعالى بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وأورد على هذا القول أن استعمال حيث للزمان قليل، ويمكن أن يجاب بأن القرآن أولى ما يحتج به. وعن الزهري: أن الناس في هذه الآية آدم عليه السلام واحتج بقراءة سعيد بن جبير {من حيث أفاض الناس} بكسر السين اكتفاء من الياء بالكسرة من قوله: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى} [طه: 115] والمعنى: أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تتركوه. {واستغفروا الله} من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم، وليكن الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب وهي أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم أن لا يقصر فيما بعده ابتغاء لمرضاة الله لا للمنافع العاجلة. والاستغفار بالحقيقة يجب على كل مكلف وإن لم يعلم من ظاهر حاله خطيئة فإن النقص لازم الإمكان، والقصور من خصائص الإنسان وكيف لا وقد قالت الملائكة وإنهم أرفع حالًا ما عبدناك حق عبادتك. وصورة الاستغفار على ما روى البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» ولو اقتصر على قوله أستغفر الله كفى. ولو زاد فقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وأنت التواب الرحيم. أو قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذا الجلال والإكرام. من كل ذنب أذنبته ومعصية ارتكبتها، وأتوب إليه من الذنب الذي أعلم ومن الذي لا أعلم كان حسنًا.
{إن الله غفور رحيم} بناءان للمبالغة. واختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية. فمن قائل إنها عند الدفع من عرفات إلى جمع بناء على القول الأول في الإفاضة، ومن قائل إنها عند الدفع من جمع إلى منى بناء على القول الآخر.
قوله عز من قائل: {فإذا قضيتم مناسككم} أي فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج، أو من أعمال مناسككم إذ المناسك جمع المنسك.
وأنه يحتمل أن يكون مصدرًا وأن يكون اسم مكان. وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء. عن ابن عباس: أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ويتناشدون فيها الأشعار وغرضهم الشهرة والترفع بمآثر سلفهم. فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربهم لا لآبائهم. ثم الفاء في قوله: {فاذكروا الله} تدل على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر فلهذا قيل: هو الذكر على الذبيحة، وقيل: هو التكبيرات بعد الصلاة في أيام النحر والتشريق وقيل: هو الإقبال على الدعاء والاستغفار بعد الفراغ من الحج كالأدعية المأثورة عقيب الصلوات المكتوبة. وقيل: معناه فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية وقهرتم القوى الطبيعية وأمطتم الأذى من طريق السلوك، فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله فإن التخلية ليست مقصودة بالذات، وإنما الغرض منها التخلية بمواجب السعادات الباقيات، فالأولى نفي والثاني إثبات. ومعنى {كذكركم آباءكم} توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء، وأقيموا الثناء على الله مقام تعداد مفاخر الآباء فإنه إن كان كذبًا أوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في العقبى، وإن كان صدقًا استتبع العجب والتباهي، وإن كانوا يذكرون الآباء ليتوسلوا بذلك إلى إجابة الدعاء فالإقبال بالكلية على مولي النعماء أولى مع أن حسنات آبائهم محبطة لسبب إشراكهم. وعن الضحاك والربيع: اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم وذلك قول الصبي أول ما ينطق أبه أبه أمه أمه أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظبًا على ذكر أبيه وأمه، فاكتفي بالآباء عن الأمهات كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] وقال أبو مسلم: جرى ذكر الآباء مثلًا لدوام الذكر. والمعنى: كما أن الرجل لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله. وقال ابن الأنباري: العرب أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء فقال تعالى: عظموا الله كتعظيمكم آباءكم. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء وقال «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» وقيل: اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية فإن الواحد منكم لو نسب إلى والدين تأذى منه واستنكف. وقيل: كما أن الطفل يرجع إلى أبيه في طلب المهمات وكفاية الملمات فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك. وعن ابن عباس معنى الآية أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء. وقوله: {أو أشد ذكرًا} إما في موضع جر عطفًا على ما أضيف إليه الذكر في قوله: {كذكركم} كما تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرًا. وإما في موضع نصف عطفًا على {آباءكم} بمعنى أو أشد ذكرًا من آبائكم على أن {ذكرًا} من فعل المذكور وهو الآباء لا فعل الذاكر وهو الأبناء، فإن الذكر بل كل فعل معتدٍ له اعتبارات اعتبار وقوعه على المفعول، واعتبار صدوره عن الفاعل.
وذلك الفعل بأحد الاعتبارين مغاير له بالاعتبار الآخر. وإنما لزم اعتبار الفعل هاهنا من جهة وقوعه على المفعول لأنّ الآباء المفضل عليهم المذكورون لا الذاكرون. ويحتمل أن يقال: المعنى فاذكروا الله ذكرًا مثل ذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا. ولكن برد عليه أن أفعل إنما يضاف إلى ما بعده إذا كان من جنس ما قبله كقولك: وجهك أحسن وجه أي أحسن الوجوه. فإذا نصب ما بعده كان غير الذي قبله كقوله زيد أفره عبدًا. فالفراهة للعبد لا لزيد. والمذكور قبل {أشد} هاهنا هو الذكر والذكر لا يذكر حتى يقال أشد ذكرًا إنما قياسه أن يقال: الذكر أشد ذكر جرًا إضافة. وفيه وجه نصبه على ما قال أبو علي أن يجعل الذكر ذاكرًا مجازًا. ويجوز نسبة الذكر إلى الذكر بأن يسمع إنسان الذكر فيذكر، فكأن الذكر قد ذكر لحدوثه بسببه وعلى جميع الوجوه. فمعنى أو هاهنا ليس هو التشكيك وإنما المراد به النقل عن الشيء إلى ما هو أقرب وأولى كقول رجل لغيره افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه. وإنما أمر الله تعالى أن يكون ذكره أشد لأن مفاخر آبائهم متناهية وصفاته الكمالية غير متناهية، وتلك مشكوكة وهذه متيقنة، وغاية الأول تضييع وحرمان، ولازم الثاني نور وبرهان. ثم إنه تعالى بعدما أمر بالعبادة تصفية للنفس وتخلية لها عن ظلمات الكبر والضلال وأمر عقيب ذلك بتنوير الباطن بنور الجلال والجمال بكثرة الاشتغال بذكر الكبير المتعال، نبه على حسن طلب مزيد الإنعام والإفضال فذكر أن الناس فريقان: منهم من قصر دعاءه على طلب اللذات العاجلة، ومنهم من أضاف إلى ذلك الطلب نعيم الآخرة وأهمل القسم الثالث وهو أن يكون دعاؤه مقصورًا على طلب الآخرة تنبيهًا على أن ذلك غير مشروع ومن حقه أن لا يوجد، فإن الإنسان خلق ضعيفًا لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بعذاب النار. فالأولى به أن يستعيذ بربه من آفات الدنيا الآخرة. عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض فقال له: ما كنت تدعو الله به؟ قال: كنت أقول: اللهم إذا كنت تعاقبني به في الآخرة فعجلنيه في الدنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفي.
والإنصاف أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن أو على منبت شعرة واحدة عجز الإنسان عن الصبر عليه، وقد يفضي ذلك به إلى الجزع ويعوقه عن اكتساب الكمالات، ويحمله على إهمال وظائف الطاعات، ومن ذا الذي يستغني عن إمداد الله إياه في دنياه وعقباه؟! ثم المقصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم؟ عن ابن عباس: أنهم المشركون كانوا يقولون إذا وقفوا: اللهم ارزقنا إبلًا وبقرًا وغنمًا وإماء وعبيدًا. وذلك لأنكارهم البعث والمعاد. وعن أنس: كانوا يقولون: اسقنا المطر وأعطنا على عدوّنا الظفر، ويحكى عن أبي علي الدقاق أنه قال: أهل النار يستغيثون ثم يقولون: أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله في الدنيا. طلب المأكول والمشروب وفي النار طلب المأكول والمشروب، فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة وقال الآخرون. يحتمل أن يكونوا مسلمين وعوقبوا لأنهم سألوا الله في أعظم المواقف وأشرف المشاهد أخس البضائع وأدون المطالب المشبه تارة بكنيف وأخرى بأحقر من جناح بعوضة، معرضين عن العيش الباقي والنعيم المقيم. وقوله: {ربنا آتنا في الدنيا} متروك المفعول الثاني لأنه كالمعلوم، ويحتمل أن يكون من قولهم فلان معط أي موجد الإعطاء، معناه اجعل إعطاءنا في الدنيا خاصة. واعلم أن مطامح النفس في الدنيا إحدى ثلاث خصال: روحانية هي تكميل القوة النظرية بالعلم وتتميم القوّة العملية بتحصيل الأخلاق الفاضلة، وبدنية هي الصحة والجمال، وخارجية هي الجاه والمال. وكل من لا يؤمن بالبعث فإنه لا يطلب فضيلة روحانية ولا جسمانية إلا لأجل الدنيا. فيطلب العلم لأجل الترفع على الأقران ويكتسب الأخلاق لتدبير الأمور المنزلية والمدنية. فلما قال عز من قائل: {وماله في الآخرة من خلاق} أي طلب نصيب حذف مفعول {آتنا} لأن كل من ليس له في الآخرة طلب، ولا لهمه إلى اقتناء السعادات الباقيات نزاع وطموح، فمطلوبه عبث وسفه ووبال وضلال أي شيء فرضت علمًا وعملًا روحانيًا أو جسمانيًا. اللهم اجعلنا ممن لا ينظر في أي شيء بنظر إلا إليك، ولا يرغب في كل ما يرغب إلا لأجل ما لديك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. ثم إنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أن هذا الفريق مجابة دعوتهم أولًا. فقال طائفة من العلماء: إنهم ليسوا بأهل للإجابة، لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح ولا يليق إلا بأولياء الله والمرتضين من عباده وقال آخرون قد يكون الإنسان مجابًا لا كرامة واجتباء بل مكرًا واستدراجًا ويؤيده قوله سبحانه: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب} [الشورى: 20] وعلى هذا يصح أن يقال في الآية إضمار أي يقول: ربنا آتنا في الدنيا فيؤتيه الله في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق.
لأن همته مقصورة على الدنيا. والحسنتان في دعاء الصالحين. أما في الدنيا فالصحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق وما أشبه ذلك حسنة {أن تصبك حسنة تسؤهم} [التوبة: 50] {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} [التوبة: 52] قيل: إما النصرة وإما الشهادة. وأما في الآخرة فالفوز بالثواب والخلاص من العقاب، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع. صرح بذلكفي قوله: {وقنا عذاب النار} وهذه بالجملة كلمة جامعة لجميع خيرات الدنيا والآخرة. روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس: ادع لنا فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا فأعادها قالوا: زدنا قال: فما تريدون سألت لكم خير الدنيا والآخرة. وعن علي رضي الله عنه الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء. وعذاب النار امرأة السوء. وقيل: الحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة، وفي الآخرة التنعم بذكر الله والإنس به وبرؤيته. قلت: لا تلذذ في الدنيا والآخرة إلا بهذا.
الجسم مني للجليس مجالس ** وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وعن قتادة الحسنتان طلب العافية في الدارين. وعن الحسن: هي في الدنيا فهم كتاب الله، وفي الآخرة الجنة. ومنشأ البحث مجيء الحسنة منكرة في حيز الإثبات، فكل من المفسرين حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة عقلًا أو شرعًا. ويمكن أن يقال: التنوين للتعظيم أي حسنة وأي حسنة أو يريد حسنة توافق حال الداعي وحكمة المدعو، وفيه من حسن الطلب ورعاية الطلب ورعاية الأدب ما ليس في التصريح به فإنه لا يكون إلا ما يشاء أو يريد حسنة ما وإن كانت قليلة، فإن النظر إلى المنعم لا إلى الإنعام. قليل منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل. {أولئك} الداعون بالحسنتين {لهم نصيب} وأي نصيب {مما كسبوا} من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة. فمن للابتداء. ويحتمل التعليل أي من أجل ما كسبوا كقوله: {مما خطيئاتهم أغرقوا} [نوح: 25] والكسب ما يناله المرء بعمله ومنه يقال للأرباح إنها كسب فلان أولهم نصيب مما دعوا به يعطيهم بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة وسمي الدعاء كسبًا لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] ويجوز أن يكون {أولئك} للفريقين جميعًا وأن لكل فريق نصيبًا من جنس ما كسبوا. {والله سريع الحساب} السرعة نقيض البطء. والحساب مصدر كالمحاسبة وهو العدّ قال الزجاج: هو مأخوذ من قوله حسبك كذا أي كفاك. وذلك أن فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان.
ومعنى كون الله محاسبًا لخلقه قيل: إنه يعلمهم ما لهم وعليهم بأن يخلق العلم الضروري في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها، أو بمقادير ما لهم من الثواب والعقاب. ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بماله وعليه، فإطلاق الحساب على هذا الإعلام إطلاق اسم السبب على المسبب. عن ابن عباس أنه قال: لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم فيقال لهم: هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها، ثم يعطون حسناتهم ويقال: هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم. وقيل: المحاسبة المجازاة {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابًا شديدًا} [الطلاق: 8] ووجه المجاز أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء. وقيل: إنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية ما لها من الثواب والعقاب. فمن قال: إن كلامه ليس بحرف ولا صوت قال: إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعًا يسمع به كلامه القديم كما يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة. ومن قال: إنه صوت قال: إنه تعالى يخلق كلامًا يسمعه كل مكلف. إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم وفي جسم يقرب من أذنه بحيث لا يبلغ قوة ذلك الصوت مبلغًا يمنع الغير من فهم ما كلف به، فهذا هو المراد من كونه محاسبًا لخلقه، ومعنى كونه سريع الحساب أو قدرته تعالى متعلقة بجميع الممكنات من غير أن يفتقر في أحداث شيء إلى فكر وروية ومدة وعدّة، ولذلك ورد في الخبر أنه يحاسب الخلق في مقدار حلب شاة، وروي في لمحة. أو أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم لأنه قادر على أن يعطي مطالب جميع الخلائق في لحظة واحدة كما ورد في الدعاء المأثور يا من لا يشغله سمع عن سمع، أو أن وقت جزائه وحسابه سريع يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد كقوله تعالى: {اقترب للناس حسابهم} [الأنبياء: 1] وقوله تعالى: {واذكروا الله} أي بالتكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار يكبر مع كل حصاة. وفيه دليل على وجوب الرمي لأن الأمر بالتكبير أمر بالذي يتوقف التكبير على حضوره، وإنما اختير هذا النسق لأنهم ما كانوا منكرين للرمي وإنما كانوا يتركون ذكر الله تعالى عنده {في أيام معدودات} هي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر: أولها يوم القر لأن الناس تستقر فيه بمنى. والثاني يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى. والثالث يوم النفر الثاني. عن عبد الرحمن بن معمر الديلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديًا ينادي الحج عرفة. من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وأيام منى ثلاثة من تعجل في يومين فلا إثم عليه واعلم أن التكبير المشروع في غير الصلاة وخطبة العيدين نوعان: مرسل ومقيد.
فالمرسل هو الذي لا يتقيد ببعض الأحوال بل يؤتى به في المنازل والمساجد والطرق ليلًا ونهارًا كما مر في تفسير قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185] وذكرنا صورة التكبير هناك أيضًا. ولا فرق في التكبير المرسل بين عيد الفطر والأضحى. وأما التكبير المقيد فأظهر الوجهين أنه لا يستحب في عيد الفطر لم ينقلوا ذلك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وإنما يستحب في الأضحى. وتقييده هو أن يؤتى به في أدبار الصلوات خاصة. واختلفوا في ابتدائه وانتهائه فقيل: من طهر يوم النحر إلى ما بعد طلوع الصبح من آخر أيام التشريق، فيكون التكبيرات على هذا في خمس عشرة صلاة وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال مالك والشافعي في أشهر أقواله، وحجتهم أن الناس فيه تبع للحجاج وهم يبتدؤن التكبير عقيب الظهر يوم النحر إلى مضي خمس عشرة صلاة. فيكون آخرها صلاة الصبح من آخر أيام منى وذكرهم قبل ذلك التلبية. والقول الثاني للشافعي أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق، فيكون التكبير في أعقاب ثماني عشرة صلاة. والقول الثالث أنه يبتدأ من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر، فتكون التكبيرات بعد ثماني صلوات، وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة. واعترض عليه بأن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق، فوجب أن يؤتى بها فيها. وإن انضم معها زمن آخر فلا أقل من أن تكون هي أغلب. والقول الرابع يبتدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، فيكبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة، وهو قول أكابر الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وقول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق والمزني من الفقهاء لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا وقال: الله أكبر. ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق، ولأن هذا هو الأحوط فتكثير التكبير خير من تقليله. وعلى هذا القول إنما تكون التكبيرات مضافة إلى أيام التشريق لأنها أكثر تلك المدة. قال الجوهري: تشريق اللحم تقديده، ومنه أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها في الشمس. وقيل: هو من قولهم أشرق ثبير كيما نغير. وقيل: سميت بذلك لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس. وأما رمي أيام التشريق فإنه يجب أن يرمي كل يوم بين الزوال والغروب بكل جمرة من الجمرات الثلاث بالترتيب مبتدئًا من الجمرة الأولى من جانب المزدلفة ومختتمًا برمي جمرة العقبة وهي التي تلي مكة رميات سبعًا في سبع دفعات لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك رماها.
وقال: خذوا عني مناسككم. فجملة ما يرمي في الحج سبعون حصاة، يرمي إلى جمرة العقبة يوم النحر سبع حصيات، وإحدى وعشرون في كل يوم من أيام التشريق إلى الجمرات الثلاث إلى كل واحدة سبع تواتر النقل به قولًا وفعلًا، ويكبر مع كل حصاة. وعلى الحجيج أن يبتوا بمنى الليلتين الأوليين من ليالي التشريق، فإذا رموا اليوم الثاني فمن أراد منهم أن ينفر قبل غروب الشمس فله ذلك ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة والرمي من الغد وذلك قوله تعالى: {فمن تعجل} أي عجل أو استعجل {في يومين فلا إثم عليه} ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت الليلة الثالثة ويرمي يومها، وبه قال أحمد ومالك والشافعي. وعند أبي حنيفة يسوغ النفر ما لم يطلع الفجر، فإذا طلع لزم التأخر إلى تمام الأيام الثلاثة وذلك قوله تعالى: {ومن تأخر فلا إثم عليه لمن التقى} قال في الكشاف: تعجل واستعجل يجيئان متعديين مثل تعجل الذهاب واستعجله، ويجيئان مطاوعين بمعنى عجل وهذا أوفق لقوله: {ومن تأخر} والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبي حنيفة. وعند الشافعي لا يجوز كسائر الأيام. وقد سئل هاهنا أن المتأخر قد استوفى ما عليه من العمل فكيف ورد في حقه {فلا إثم عليه} وهذا إنما يقال في حق المقصر الذي يظن أنه قد رهقه آثام فيما أقدم عليه. فأجيب بأن الرخصة قد تكون عزيمة كالقصر عند أبي حنيفة والشيعة لا يجوز في السفر غيره، فلمكان هذا الاحتمال رفع الحرج في الستعجال والتأخر دلالة على أن الحاج مخير بين الأمرين، أو بأن أهل الجاهلية كانوا فريقين: منهم من يجعل المتعجل آثمًا، ومنهم من يجعل المتأخر آثمًا مخالفًا لسنة الحج، فبيّن الله تعالى أن لا إثم على واحد منهما. وقيل: إن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاثة. فكأنه قيل: إن أيام منى التي ينبغي المقام بها فيها ثلاثة، فمن نقص فلا إثم عليه، ومن زاد على الثلاثة ولم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه. وقيل: إن الآية سيقت لبيان أن الحج مكفر للذنوب والآثام لا لبيان أن التعجل وتركه سيان كما أن الإنسان إذا تناول الترياق فالطبيب يقول له: الآن إذا تناولت السم فلا بأس، وإن لم تتناول فلا بأس، يريد أن الترياق دواء كامل في دفع المضار لا أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحدًا. وقيل: إن جوار البيت مكروه عند كثير من العلماء لأن ذلك قد يفضي إلى نقص حشمة البيت ووقعه في قلبه وعينه فأمكن أن يختلج في قلب أحد أن التعجيل أفضل بناء على هذا المعنى، ولما في التعجل من المسارعة إلى طواف الزيارة، فبيّن تعالى أنه لا حرج في واحد منهما.
وقال الواحدي: هذا من باب رعاية المقابلة والمشاكلة مثل {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] بل هاهنا أولى لأن المندوب يصدق عليه أنه لا إثم على صاحبه فيه، وجزاء السيئة ليس بسيئة أصلًا. وأما قوله تعالى: {لمن اتقى} أي ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي كيلا يتخالج في قلبه إثم منهما فإن ذا التقوى متحرز من كل ما يريبه. وقيل: معناه أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقيًا قبل حجة كقوله: {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة: 27] أو لمن كان متقيًا عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج. وقوله: {واتقوا الله} أي فيما يستقبل فيه حث على ملازمة التقوى فيما بقي من عمره وتنبيه على مجانبة الاغترار بالحج السابق كما أن قوله: {واعلموا أنكم إليه تحشرون} توكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه لأن الحشر وهو اسم يقع على ابتداء خروج الناس من الأجداث إلى انتهاء الموقف يوجب تصوره، لزوم سيرة الاتقاء عن ترك الواجبات وفعل المحظورات. والمراد من قوله: {إليه} أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إليه، ولا مستعان إلا هو {يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله} [الانفطار: 19]. اهـ.